مرحبا بكم ... انت الصديق رقم

السبت، ٢٢ مارس ٢٠٠٨

استحقاقات اللحظة الحرجة



20/3/2008 م
--->

فهمي هويدي
في الوقت الراهن بوجه أخص، وأكثر من أي وقت مضى. يجب أن تستنفر كل الطاقات الفاعلة في مصر وتستدعى للإجابة عن السؤال: ما العمل؟
(1)
لا أريد أن أصدق أن الناس يصطفون الآن في طوابير يتسابقون عليها منذ الفجر، لكي يشتروا حقهم في خبز اليوم. قبل ثلاثين عاماً كنا نستحي حين نذكر لزوارنا أننا نقف في الطوابير لكي نحصل على الدجاج. وكانوا يتعاطفون معنا ويرثون لحالنا. ولا أعرف ماذا يمكن أن يقول هؤلاء حين يرون الناس تتزاحم على طوابير الخبز، وحين يعرفون أن عشرة مصريين سقطوا في ساحة العراك من أجل ذلك. والرقم ذكره “الأهرام” في يوم الأربعاء 13/،3 في حين قال تقرير “قناة الجزيرة” في اليوم السابق إنهم 15. الدكتور أحمد الجويلي أمين مجلس الوحدة الاقتصادية ووزير التموين الأسبق قال لي إنهم لو كانوا واحداً فقط فهي كارثة.
لا أريد أن أصدق أن في مصرأناساً لجأوا إلى الانتحار لأنهم وجدوا أطفالهم يتضورون جوعاً وعجزوا عن إطعامهم، أو لأنهم فقدوا الأمل في العثور على العمل، واستبد بهم اليأس وعضهم الجوع، فلجأوا إلى الانتحار بدورهم كحل أخير.
لا أريد أن أصدق ما رأته عيناي ذات صباح، حين وقعت على خبر يقول إن امرأة مسنة وقفت أمام جمع من أعضاء مجلس الشعب. وقالت لهم إنها وأسرتها لم يذوقوا طعم اللحم منذ ثلاثة أشهر. وهو كلام أمَّن عليه باحثون قالوا إن هذه ليست حالة خاصة، وإنما هي ظاهرة عامة في المجتمع المصري الآن.
بأذني سمعت المهندس نيازي سلام رئيس بنك الطعام وهو يقول إنه كلف فريق عمل برصد مظاهر الفقر في الأحياء العشوائية المحيطة بالقاهرة -عاصمة أم الدنيا- وأعدوا شريطاً وثائقياً، لم يصدق أحد ممن شاهدوه أنه يسجل واقعاً حاصلاً في مصر، ومنهم من انفجر باكياً من هول ما رأى، حتى طلبوا إيقاف عرض الشريط. سمعته يقول أيضاً إن في بعض قرى الصعيد أناساً استبد بهم الجوع حتى أصبحوا يأكلون الفئران البرية.
مثل هذه الشواهد لا حصر لها، وكلها تقول بصوت مدوٍ يخرق الآذان أن غول الغلاء قد توحش وأصبح ينهش اجساد الفقراء النحيلة، على نحو بات يضغط عليهم بشدة بصورة أذلتهم وكادت تقصم ظهورهم. وهؤلاء الفقراء أصبحوا يشكلون الكتلة الكبرى والأغلبية الساحقة في المجتمع، الذي بات مقسما بين أثرياء- بعضهم لا حدود لثرائهم- وفقراء لا نهاية لأحزانهم وفقرهم. وهي صورة لا تدع مجالاً للشك أن مصر تمر الآن بلحظة حرجة للغاية، لا تصلح معها المسكنات والمهدئات، وتتحول معها التصريحات المتفائلة إلى مصدر للاستفزاز والسخط، ودليلاً يعزز من أزمة الثقة ويعمق في الشرخ الموجود في المجتمع.
(2)
أرجو ألا يكون الرد على كل ذلك أرقاماً ونسباً مئوية تتحدث عن معدلات النمو الجيدة ومتوسطات الدخول المحترمة، ومئات الألوف من فرص العمل التي توفرت، وملايين الدولارات التي دخلت سوق الاستثمار، لعدة أسباب أحدها أننا لا نستطيع أن ندعي أن معدل النمو مرتفع وفرص العمل تنهال علينا كالمطر والسياسة الاقتصادية حققت أهدافها، لكن أحوال الناس متدهورة ويرثى لها. ذلك أننا سنصدق كل ذلك ونتأكد من صحته حين يشعر الناس بأن هذه الإنجازات طرقت أبواب بيوتهم ذات يوم. السبب الثاني أن تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر عن مؤسسة “الأهرام” عن العام الحالي سجل تضارباً في الارقام المعلنة المتعلقة بمعدلات النمو ونتائج جهود مكافحة البطالة والفقر (من ص 198 إلى 202)، الأمر الذي يضعف الثقة في صدقية تلك الأرقام.
مع ذلك، فإننا إذا صدقنا ما يقال من بيانات رسمية، وأحسنّا الظن بها، وفي الوقت ذاته وجدنا أن الأوضاع المعيشية للناس تزداد سوءاً، فذلك يعني ثلاثة أمور: أولها أن المشكلة الاقتصادية والاجتماعية لم تحل، وثانيها أن ما اتخذ من إجراءات ليس كافياً، وثالثها أن السياسات المتبعة ذاتها تحتاج إلى إعادة نظر.
نسمع حديثاً مستمرًا عن ارتفاع الأسعار العالمية، وذلك حق يراد به باطل. أولاً، لأن ارتفاع الأسعار العالمية لا يشمل كل السلع، في حين أن الارتفاع الفاحش في الأسعار لم يستثن سلعة موجودة في السوق المصرية.
ثانياً، لأن ثمة دلائل تشير إلى أن ارتفاع الأسعار العالمية بولغ فيه كثيراً، بحيث احتج به بعض الصناعيين ليضاعفوا أسعار منتجاتهم بمعدلات أعلى بكثير من معدل الارتفاع في السوق العالمية، وجنوا من وراء ذلك أرباحاً خرافية. آية ذلك أن أحد كبار الصناعيين صرح للصحف في الأسبوع الماضي بأنه دفع ضرائب عن السنة المالية الأخيرة بما قيمته 375 مليون جنيه. وإذا صح ذلك، وكانت تلك قيمة الضريبة التي دفعها على صافي ربحه في العام، بعد سداد كل التكاليف والنفقات - فمعنى ذلك أنه حقق ربحاً يعادل ملياراً و700 مليون جنيه في عام واحد. وهو ربح هائل لا نحسده عليه لكنه يفسر لنا في الوقت نفسه لماذا ظل سعر السلعة التي ينتجها يتزايد على مدار العام كل شهر، وأحياناً كل أسبوع، متذرعاً في ذلك بارتفاع الأسعار العالمية. في حين تبين لنا أن تلك الزيادات التي ضربت سوق العقار، كان هدفها زيادة أرباحه بمعدلات فاحشة، وليس تغطية ذلك الارتفاع في الأسعار.
على صعيد آخر، فإن تأثر مصر الشديد بارتفاع الأسعار العالمية جاء كاشفاً لمدى هشاشة وضعف هيكلها الاقتصادي، الذي أصبح يقوم على الخدمات بالدرجة الأولى وليس الإنتاج، لأن الدول إذا كان لديها ما تنتجه فإن اكتواءها بنار ارتفاع الأسعار العالمية يظل محدوداً، خصوصاً إذا كانت تصدر شيئاً مما تنتجه، مما قد يحدث توازناً مع ما تستورده. أما الدول غير المنتجة فإنها تصبح فاقدة المناعة أمام رياح الأسعار العالمية.
(3)
قبل سبعين عاماً (سنة 1938) قام أحد اليابانيين المسلمين اسمه تاكيشي سوزوكي- برحلة لأداء مناسك الحج، وبعد أن عاد ألف كتاباً عنوانه “ياباني في مكة” ترجمه إلى العربية الدكتور سمير عبدالحميد ابراهيم وزوجته اليابانية سارة تاكا ها شي- ولأسباب متعلقة بتأشيرة الدخول، جاء الرجل إلى القاهرة واستقل الباخرة من السويس إلى جدة. وهم على الباخرة، عرض عليه فيلم فكاهي أمريكي، وفيلم تجاري مصري. وهو يصف الفيلم الاخير قال إنه بدأ بعرض مهرجان أو حفل مقام في قرية مصرية، قدمت فيه بعض النسوة رقصات مختلفة، في حين جلس آخرون يتابعونهن. وقد قامت واحدة من بين المتفرجين لتشترك في الرقص، ولكن الأيدي امتدت لتجذب ثوبها، الذي تمزق، فسألتها الراقصات عن مصدر قماشه، وعرفن منها أنه ياباني الصنع. فشرعن في توبيخها لهذا السبب، ما أثار استياءها ودفعها إلى الاشتباك معهن بكلام تطور إلى عراك حاولت خلاله المرأة أن تنال من ثياب الأخريات لكنها فشلت، وحينئذ قالت لها النسوة: لماذا اخترت القماش الياباني الضعيف، وفي مصر أفضل منه، وشركة مصر للأقمشة تنتج أصنافاً رائعة. وعلى المصريين أن يستخدموا منتجات بلدهم، وأن يتخلوا عن الاقمشة المستوردة. وفي اللحظة الأخيرة من الفيلم ذهبت المرأة باكية إلى المدينة، واشترت قماشاً من إنتاج شركة مصر، وعادت إلى الحفل فرحبت بها الراقصات وصرن جميعاً صديقات لها. وعند هذه النهاية صفق المسافرون إلى الحج طويلاً. وهو ما أغاظ صاحبنا الياباني، الذي لم يسترح إلا عندما وجد أن الشاشة التي عرض عليها الفيلم مصنوعة في اليابان.
أذكر بأن ذلك حدث قبل سبعين عاما، حين كانت في مصر صناعة للنسيج تعتز بها، وكانت هناك غيرة على المنتج المصري، الذي تدهور الآن، وسقط من أعين المصريين.
(4)
لست أشك في أن الذين اعتزوا بالقماش المصري وقتذاك وأرادوا إقناع ركاب الباخرة بأنه افضل من الياباني، لم يخطر على بالهم الموقف الذي وصلنا إليه الآن. وربما تصوروا أن بلدهم سوف تكتسح اليابان في الأسواق، الأمر الذي يطرح على أهل الذكر في مصر سؤالين كبيرين هما: لماذا جرى ما جرى، وهل المشكلة في الاقتصاد أم في السياسة أم في الاثنين معاً؟ ثم ما العمل؟ ولأنني لست من هؤلاء فلا كلام لي في الموضوع. لكني لا أتردد في القول بأن النتائج التي تحققت حتى الآن تدلنا على أن خطأ جسيماً حدث في التشخيص أو التنفيذ او السياسات أو الأشخاص والآليات. وفي كل الأحوال فالامر لا يحتمل انتظاراً، وانما يحتاج الى مراجعة شاملة وعاجلة، تصوب الخلل أياً كان مصدره. والعجلة ليست وحدها المطلوبة، وإنما نحن بحاجة إلى شجاعة ايضاً. لأن الذين أعطوا أكثر من فرصة واستنفدوا مرات الرسوب، يجب أن يخلوا مواقعهم لمن يستطيع أن يسترد ثقة الناس، وينهض بما عجزوا عن القيام به. وإذا كان مدرب كرة القدم يستبعد بمجرد الفشل في أي مسابقة مهمة، فإن إدارة اقتصاد البلد واستقرار أوضاع الناس المعيشية ليست أقل اهمية من مباريات كرة القدم.
لقد قال لي أحد الوزراء المخضرمين إن الرئيس جمال عبدالناصر كان يقول في اجتماعات مجلس الوزراء إن هناك سلعاً إذا نقصت في الأسواق يوماً ما، فينبغي ألا يذهب الوزير المختص إلى مكتبه في اليوم التالي. وحدد هذه السلع بخمس هي: الخبز والقمح والفول والعدس والسكر، ما رأيكم دام فضلكم؟