مرحبا بكم ... انت الصديق رقم

الثلاثاء، ٢٥ مارس ٢٠٠٨

الكاشـــــــــفة



25/3/2008 م
--->

فهمـي هـويـــدي
أزمة الخبز في مصر خبر سيئ لا ريب‏,‏ لكن الأسوأ منه هو ما كشفت عنه‏,‏ الأمر الذي يعني أننا بصدد مفاجأتين وليس مفاجأة واحدة‏,‏ إحداهما من العيار الثقيل والثانية من العيار الأثقل‏.‏
‏(1)‏
مشكلة الخبز مصطنعة وليست حقيقية‏,‏ هكذا فهمت مما سمعت وقرأت‏,‏ فالقمح متوافر واستيراده منتظم برغم ارتفاع سعره وشحه في السوق العالمية‏,‏ إذ وصل سعر الطن الي‏540‏ دولارا في حين أنه كان‏240‏ دولارا في عام‏2006,‏ والأزمة حدثت بسبب التلاعب في توزيعه سواء عن طريق استخدامه كبديل أرخص لعلف الماشية‏,‏ أو تهريبه وبيعه في السوق السوداء لصالح شركات ومحال القطاع الخاص التي تنتج الخبز الفاخر والحلوي‏.‏

بسبب ذلك التلاعب شح الخبز في الأسواق‏,‏ وتزاحم الناس علي طوابير شرائه‏,‏ التزاحم أدي الي التدافع‏,‏ الذي أوقع بعضا من الاشتباكات‏,‏ وهذه أدت الي وفاة البعض وإصابة آخرين‏,‏ حتي أصبحت الصحف تتحدث عن حرب الخبز وشهداء الخبز‏..‏الخ‏,‏ النتائج التي ترتبت بعد ذلك نشرتها الصحف‏,‏ فقد اجتمع الرئيس مبارك مع رئيس مجلس الوزراء والوزراء المعنيين بالأمر‏,‏ وتقرر في الاجتماع أن يتدخل جهاز الخدمة المدنية ووزارة الداخلية لحل الإشكال‏,‏ بحيث يشارك الاول في توفير الخبز وتشارك الثانية في توزيعه‏,‏ كما تقرر أن يقدم إلي رئيس الدولة تقرير اسبوعي عن الجهود المبذولة في هذا الصدد‏.‏
دخول جهاز الخدمة المدنية والشرطة علي خط حل الأزمة‏,‏ وتولي رئيس الجمهورية المتابعة الاسبوعية لجهود الحل‏,‏ دلالة غاية في الأهمية‏,‏ ذلك أنها تعني أن الجهاز الإداري القائم علي الأمر فشل في إدارة الأزمة‏,‏ وهو ما اقتضي اللجوء الي حلول استثنائية للتعامل معها‏,‏ إن شئت فقل إن الفساد في هذه الدائرة استقوي واستشري بحيث أصبح قادرا علي هزيمة أجهزة الحكم المحلي ومؤسسات الرقابة الشعبية‏,‏ والأجهزة الأمنية علي مستوي القاعدة‏,‏ وسواء تم ذلك بسبب ضعف هذه الجهات وعجزها‏,‏ أو بسبب اختراقها والتواطؤ مع بعض عناصرها‏,‏ فالنتيجة واحدة‏,‏ وهي أن الفساد ظل الطرف الأقوي بحيث اقتضت هزيمته تنحية تلك الجهات التي رسبت في الاختبار جانبا‏,‏ واستدعاء الخدمة المدنية والشرطة لإعادة السيطرة علي الموقف‏.‏
‏(2)‏
بعدما تقرر الاستعانة بالخدمة المدنية والشرطة لحل الأزمة‏,‏ قام مساعد وزير الداخلية لأمن القاهرة‏,‏ اللواء إسماعيل الشاعر‏,‏ بجولة في بعض ضواحي العاصمة لتفقد أوضاع توزيع الخبز الذي تم بواسطة عربات الأمن المركزي‏,‏ وما كاد الرجل يدخل منطقتي مدينة السلام والبساتين في جنوب القاهرة‏,‏ حتي تحلق الناس حوله‏,‏ واشتكوا له من استغلال سائقي حافلات الركاب الصغيرة‏(‏ الميكروباص والسرفيس‏)‏ الذين يرغمونهم علي دفع أجرة أكثر من القيمة المقررة‏,‏ وطبقا لما نشر صباح الأربعاء‏3/19‏ فإن اللواء الشاعر أمر ضباط المباحث بمراقبة هذه العملية‏,‏ عن طريق التنكر في ثياب مدنية وركوب الحافلات لتحرير مخالفات للسائقين المخالفين الذين يتقاضون أجورا أعلي من التسعيرة المقررة‏,‏ وحين ذهب مساعد الوزير الي حلوان‏,‏ اشتكي له المواطنون من تراكم القمامة وسط مساكنهم وأمام مجمع المدارس‏,‏ فقرر ازالتها بالتنسيق مع محافظة القاهرة‏,‏ وعين حراسة أمنية علي المكان لمنع إلقاء القمامة في المكان‏.‏
ما أثار انتباهي في القصة المنشورة أن مسئول أمن القاهرة خرج في مهمة تتعلق بمشكلة الخبز‏,‏ فإذا بالناس يواجهونه بمشكلة إضافية تتعلق باستغلالهم من قبل سائقي الميكروباص‏,‏ وبعد ذلك وجد نفسه مطالبا بحل مشكلة تراكم القمامة‏,‏ ولست أشك في أن الرجل لو واصل جولته لوجد قائمة طويلة من الشكاوي‏,‏ سواء من غلاء الأسعار أو تدهور الخدمات التعليمية والصحية أو نقص المياه وتلوثها أو عصابات البلطجية والعاطلين الذين يفرضون الإتاوات علي الناس‏..‏الخ‏,‏ وهو ما يعني أمرين مهمين أولهما أن الناس أصبحوا يضجون بالشكوي‏,‏ سواء من الغلاء أو الفوضي أو من قصور الخدمات‏,‏ والثاني أنهم يريدون أن يسمعوا أصواتهم الي المسئولين‏,‏ لكنهم لا يجدون أذنا تصغي إليهم‏,‏ فهم في واد والمسئولون في واد آخر‏.‏

اذا صح ذلك التحليل فإنه يستدعي ذات السؤال الكبير الذي طرحته أزمة الخبز‏,‏ وهو‏:‏ أين الأجهزة العديدة الحكومية والأهلية المنوط بها القيام علي أمور الناس ورعاية مصالحهم وحل مشكلاتهم؟
‏(3)‏
الصورة قابلة للتعميم‏,‏ واذا لاحظت أن جولة مدير أمن القاهرة كانت في جنوب العاصمة‏,‏ فلك أن تتصور كم الشكاوي التي يعاني منها الناس في أطراف الدلتا وجنوب الصعيد‏,‏ ولعلي لا أبالغ اذا قلت انك اذا أردت أن تعرف ما يحدث في تلك المناطق‏,‏ فما عليك إلا أن تضرب أوجاع القاهرة وأحزانها في عشرة أضعاف علي الأقل‏,‏ لذلك فإننا حين نكتشف أن الجهاز الإداري بكامل مؤسساته وجهات الرقابة الشعبية بمختلف مستوياتها غيب دورها تماما في أزمة الخبز‏,‏ ونقيس علي ذلك ما يجري في القطاعات الأخري‏,‏ فإننا نصبح بإزاء واقع تدوي فيه أجراس الإنذار والخطر‏.‏
أزمة الخبز هي الكاشفة‏,‏ التي أزاحت الأستار عن الحقيقة التي سكت عنها كثيرون وجهلها آخرون‏,‏ وجاء استنفار الخدمة المدنية والشرطة للقيام بما عجزت أجهزة الإدارة المدنية عن القيام به‏,‏ ليطرح حلا ما خطر ببال أحد‏,‏ يعبر عن اليأس من إمكان الاعتماد علي تلك الأجهزة‏,‏ وهو ما أعتبره نوعا من الإقالة المؤقتة لها‏.‏
في ظروف من هذا القبيل حدث ما هو أغرب‏,‏ إذ قرأت لأحد الكتاب مقالا دعا فيه الي نقل مسئولية العمل الخدمي في مصر الي الخدمة المدنية‏,‏ إذ نشرت صحيفة الحياة اللندنية في‏3/15‏ تعليقا بهذا المعني لكاتب مصري قال فيه إنه إزاء كارثة انهيار الخدمات العامة في مصر‏,‏ وإزاء فشل أجهزة الإدارة في مهمتها‏,‏ فلم يعد باقيا أمام الدولة المصرية سوي نقل القيادة الميدانية اليومية للعمل الخدمي الي الخدمة المدنية‏,‏ ليبادر باقامة نظام جديد للخدمات العامة‏,‏ يديره قادته‏,‏ بأدواتهم وآلياتهم ومناخهم الانضباطي‏,‏ ودعا الكاتب المدنيين في الحكم والمعارضة إلي تجاوز المخاوف والحساسيات والترحيب بالدور المأمول للخدمة المدنية في إصلاح نظام الخدمات العامة لتجنيب البلاد الاحتقان واحتمالات الفوضي‏.‏
صحيح أنه رأي فردي‏,‏ لكنه من وحي واقع أعطي انطباعا بأن هذا هو الحل‏.‏
(4)‏
لا تفوتك ملاحظة أن غياب دور الأجهزة المدنية وتدهور الخدمات ظهر جليا في الأفق بعد مضي‏35‏ عاما مما سمي في حينه آخر الحروب‏,‏ ذلك أنه خلال الفترة التي أعقبت حرب‏1973‏ وحتي اللحظة التي نعيشها في عام‏2008,‏ لم تنشغل مصر بغير همها‏,‏ فلا حاربت من أجل أحد‏,‏ ولا ضحت من أجل أحد‏,‏ وفي هذا المناخ روجت دعاوي الانكفاء علي الذات لعناوين عدة كان من بينها اطلاق شعار مصر أولا الذي تبنته مدرسة انتحلت لنفسها اسم اللوبي المصري‏,‏ ودأب منظروها علي المناداة بفك الارتباط مع المحيط العربي‏,‏ والدعوة الي التركيز علي الشأن الداخلي دون غيره‏.‏
بعد ذلك الانكباب والتفرغ المفترض لتنمية الداخل طوال‏35‏ عاما‏,‏ فاجأتنا أزمة الخبز وقبلها أزمة المياه‏,‏ ومع الاثنين أزمة الغلاء الفاحش‏,‏ غير أزمة التدهور الكبير في خدمات التعليم والصحة فضلا عن الاسكان والمرافق‏,‏ فوجئنا أيضا بأن الأجهزة المدنية عاجزة عن التعامل مع مشكلات الناس‏,‏ الأمر الذي اضطرنا الي الاستعانة بالخدمة المدنية والشرطة لحل بعض تلك المشكلات‏,‏ وهو ما يطرح السؤال التالي‏:‏ لماذا عجزت أجهزة الإدارة المحلية الرسمية والشعبية عن أن تقوم بواجبها في رعاية مصالح المجتمع وحل مشكلات الناس؟ عندي في الاجابة عن السؤال أربعة أسباب هي‏:‏
‏*‏ إن الأولوية دائما كانت منصبة علي الأمن السياسي دون الأمن الاجتماعي‏,‏ وهو ما شغل مختلف الأجهزة بالأول وأدي الي إهمال الثاني‏,‏ حتي أصبحت أقسام الشرطة تستنفر اذا شمت رائحة نشاط معارض أو إرهابي‏,‏ وتململ وتتحرك متثاقلة اذا تعاملت مع ما هو مدني أو جنائي‏,‏ وقد قرأت في الصحف القومية تعليقات تساءلت عن السبب في عدم تطبيق قانون الطوارئ علي الذين تلاعبوا بأقوات الناس‏,‏ مثلما تطبق علي غيرهم الذين يقدمون للمحاكمة العسكرية‏.‏
‏*‏ إن القيادات التنفيذية المحلية كلها تشغل مناصبها بالتعيين وليس بالانتخاب‏,‏ وذلك أمر نادر الحدوث في العالم المعاصر‏,‏ وحين تعين الحكومة المحافظ ورئيس مجلس المدينة أو القرية‏,‏ فإن ولاءه يظل للجهة التنفيذية التي عينته ولا ينشغل إلا باسترضائها‏,‏ أما اذا تم انتخاب كل هؤلاء فإن استجلاب رضا الناس والتفاني في خدمتهم سيحتل الأولوية لدي كل واحد‏,‏ وفي ظل استمرار الوضع الراهن فلا غرابة في أن ينعزل أولئك القادة المحليون عن الواقع‏,‏ بحيث لا تؤرقهم كثيرا هموم الناس ومشكلاتهم الحياتية‏.‏
‏*‏ إننا لا نكاد نلمس تطبيقا أو احتكاما لقاعدة الثواب والعقاب فيما يخص المسئولين عن الحكم المحلي إلا في حالة واحدة‏,‏ هي التي تتصل بالنواحي الأمنية‏,‏ إذ طالما لم يحدث أي إخلال بالأمن‏,‏ فكل ما عدا ذلك يمكن تمريره وغض الطرف عنه‏,‏ وهو ما أشاع بين العاملين في تلك الأجهزة شعورا بأنهم لا يحاسبون عن الفشل أو القصور في تقديم الخدمات للناس‏.‏
‏*‏ إن الرقابة الشعبية منعدمة‏,‏ والسباق فيها لا يدور حول التنافس من أجل خدمة المجتمع وتحقيق ما ينفع الناس‏,‏ ولكن محوره يظل سياسيا في نهاية المطاف‏,‏ بحيث غدا الشاغل الأساسي فيه هو هوية القوي السياسية الممثلة في المجالس المحلية‏,‏ وقد مررنا في مصر بالإعداد لتجربة انتخابية من هذا القبيل قبل أيام قليلة شابتها ملابسات كثيرة وتدخلات سافرة لفرض مرشحي الحزب الوطني‏,‏ الذين ينتظر أن يفوزوا بأكثر من‏90%‏ من مقاعد المجالس المحلية في أنحاء البلاد‏,‏ وحين تكون أغلبية المجالس المحلية من أعضاء الحزب الحاكم‏,‏ ويكون ذلك حاصلا في مجلس الشعب أيضا‏,‏ فإن الحديث عن جدية الرقابة الشعبية علي حكومة الحزب وعلي الأجهزة الرسمية علي مستوي المحافظات يصبح مشكوكا فيه‏.‏
وحين يصبح أعضاء هذه المجالس باختلاف مستوياتها‏,‏ ممثلين للحزب وليس المجتمع‏,‏ فلا غرابة في أن تستعير السلطة في أوقات الأزمات اطرافا أخري مثل الخدمة المدنية والشرطة لحل بعض المشكلات المتفاقمة التي تواجه المجتمع‏.‏
ما العمل؟ اسمحوا لنا بأن نفكر في الاجابة عن السؤال في الأسبوع المقبل بإذن الله‏.