مرحبا بكم ... انت الصديق رقم

السبت، ٩ فبراير ٢٠٠٨

إنجازات وزارة الحقيقة


فهمي هويدي
نبَّهني أحد المتابعين للبرامج التليفزيونية الحوارية التي تُبثُّ في القاهرة إلى أنها أصبحت في الآونة الأخيرة تقول كلامًا واحدًا في الشأن الفلسطيني، وقال لي إنه أصبح يشاهد واحدًا من تلك البرامج، ثم ينتقل إلى محطة أخرى ليجد الحوار متصلاً حول نفس الموضوع، وإذا تحوَّل إلى قناة ثالثة فإنه يكتشف أن الحوار جارٍ ومستمرٌ باللغة والمعلومات ذاتها، وليومين متتاليين قررت أن أختبر كلامه، فاكتشفت أن تلك البرامج تحوَّلت إلى بلاغاتٍ ذات مضمون واحد، يشكِّل هجاءُ حماس قاسمًا مشتركًا بينها من خلال تسويق القصص الخرافية عن تهديد السيادة والأمن القومي والتآمر بين حماس والإخوان لضرب الاستقرار في مصر.
ولاحظت أن أحد المشاركين في تقديم تلك البرامج قدَّم فقرةً ذكَّرتني بالتقارير التي يكتبها المخبرون للداخلية عن تحركات المشتبهين واتصالاتهم، ثم وجدت أن المعلومات ذاتها يردِّدها مقدِّم برنامج آخر في قناة مغايرة؛ الأمر الذي أقنعني بأن ثمة قائمةً بالمعلومات والشائعات وُزِّعت نُسَخٌ منها على الجميع، وطُلب منهم أن يستثمرها كل واحدٍ حسب طريقته.
كنتُ أعرف أن ثمةَ تدخلات أمنية في جميع القنوات التليفزيونية التي تُبثُّ من القاهرة، إلى استبعاد أناسٍ معيَّنين من تقديم بعض البرامج، واعترضت على مواعيد تقديم آخرين لبرامج أخرى؛ بحيث تصبح أسبوعيةً مثلاً بدلاً من يومية، وكنت أعرف أن ثمة اختراقات أدَّت إلى فرض بعض الأشخاص الذين تربطهم بأجهزة الأمن علاقات خاصة على بعض المحطات.
وحدَّثني بعض الزملاء عن توجيهات وتحذيرات أمنية للمذيعين والمذيعات تفصح بأشياء وتستبعد موضوعات بذاتها حتى قيل لي إنه عقب بثِّ إحدى الفقرات التي لم تنل الرضا، فإن أجهزة الأمن لم تنتظر حتى الصباح، ولكنها اقتادت كل الذين شاركوا في الحلقة بعد انتهائها إلى أحد المقرات الأمنية لمساءلتهم وتحذيرهم، وأُطلق سراح المذيعة في الثانية صباحًا في حين بقي الآخرون في الحجز حتى الفجر!!.
المشهد هذه المرة كان جديدًا؛ لأن الجميع أطلقوا معزوفةً واحدةً؛ الأمر الذي يعطي انطباعًا قويًّا بأنهم يقرءون من نوتة موسيقية واحدة، وهو ما ذكَّرني برواية جورج أورويل الشهيرة (العام 1984) التي تحدَّث فيها عن جبروت السلطة التي أنشأت وزارةً للحقيقة، تتولَّى إعادة صياغة عقول الناس في قالب واحد عن طريق اللعب في المعلومات وإعادة صياغتها؛ لتخدم غرضًا واحدًا يُعمَّم على الجميع؛ بحيث لا يرون الأمور إلا على النحو المرسوم، وكان يتولَّى هذه المهمة رجلٌ في وزارة الحقيقة اسمه دينستون (لا أعرف ما اسمه الآن في الداخلية أو الإعلام).
هذا التطابق الصارم في الموقف والمعلومات التي يقدِّمها التليفزيون ليس حاصلاً في الصحافة بذات القدر؛ فالصحف القومية وشبه المستقلة التزمت بالإطار الذي حدَّدته وزارة الحقيقة، في حين أن الصحف المستقلة وأغلب الحزبية خرجت على النص، وقدَّمت قراءةً أخرى أكثر توازنًا وإنصافًا للأحداث والوقائع تتناقض مع التعميم الذي وزَّعته الوزارة المذكورة؛ وهو ما أتاح للصحف فرصةً في التنوع واختلاف الاجتهادات لا يكاد المرء يلحظها في البرامج التليفزيونية.
ما الذي يعنيه ذلك؟.. يعني أن الأجهزة الأمنية إذا كانت قد اخترقت أغلب المؤسسات الصحفية فإن هيمنتها شبه كاملة على المواقف السياسية التي تعبِّر عنها البرامج التليفزيونية التي تبثُّها جميع القنوات، لا فرقَ في ذلك بين التليفزيون المصري وغيره، ورغم أن التطابق بين تلك المواقف وبين الموقف الرسمي المصري شديدٌ بدرجة تكشف الدور الذي تقوم به وزارة الحقيقة، إلا أن اهتمام تلك الأجهزة بالتليفزيون يعبِّر عن إدراكٍ لحقيقة الدور الخطير الذي تلعبه الصورة في تشكيل الوعي وغسل الأدمغة؛ وهو ما يجعل التليفزيون أقوى تأثيرًا في الرأي العام، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم أجمع، ومن خلال التليفزيون أصبح بوسع الدولة الحديثة تأميم الإدراك والتحكم في عقول الجماهير الغفيرة، في الوقت الذي ترتفع فيه راية خصخصة الاقتصاد والخدمات.
إن وزارةَ الحقيقة ليست اختراعًا أمنيًّا، ولكنها قرارٌ سياسي بالدرجة الأولى.