مرحبا بكم ... انت الصديق رقم

الثلاثاء، ٢٦ فبراير ٢٠٠٨

صوت الضمير المصري


بقلم الاستاذ : فهمي هويدي
تلقيت عدة تعليقات حول ما كتبته في هذا المكان خاصاً بعبور الفلسطينيين المحاصرين للحدود في سيناء. وكان أبرز ما فيها أنها تحدثت بلغة أخرى وروح مغايرة لما ساد في أغلب وسائل الإعلام المصرية. وقد انتقيت منها تعليقات لثلاثة من أبرز المثقفين المصريين. هم الدكتور رؤوف عباس أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، والمستشار طارق البشري النائب السابق لرئيس مجلس الدولة، والدكتور سيد مصطفى سالم أستاذ التاريخ بجامعة صنعاء. آراؤهم كما تلقيتها:
(1)
أرقب بحزن شديد ما تتداوله وسائل الإعلام من كتابات وتصريحات تلوك الأمن القومي لمصر بصورة مزرية مغلوطة تتنافى مع حقائق التاريخ والجغرافيا ومبادئ علم السياسة وأبجديات الأمن القومي. ذلك أن إدارة الظهر لكل ما يجري على أرض فلسطين معناه عمى الألوان عن التمييز بين الصديق والعدو. وهو ما يعرض أمن هذا الوطن لخطر داهم ويرشحه لمخططات التفتيت التي لم يعد أمرها سراً. فلسطين يا سادة بوابة مصر الشرقية منذ أقدم العصور وأمن مصر وسلامتها رهين بما يدور على أرضها حقيقة واضحة لكل من يجيد قراءة التاريخ، منذ عصر رمسيس الثاني حتى عصر جمال عبد الناصر، حيث أدرك حكام مصر أن حماية بلادهم تقتضي عدم التغاضي عن وجود من يعاديها على بوابتها الشرقية، بل ما وراءها حتى جبال طوروس جنوب الأناضول.
ويكفي أن نورد مثالاً واحداً لذلك، فحمل مصر لأعباء النضال ضد الغزو الصليبي والغزو المغولي على مدى ما يقرب من القرون الثلاثة على اختلاف العهود لم يكن مجرد أداء لفريضة الجهاد. ولكنها كانت تدرأ عن نفسها خطرا داهما لو تقاعست عن مواجهته لأصابها في مقتل يهدد وجودها.
هذه الحقيقة وعاها محمد علي باشا بفطرته، حين أدرك أن مشروعه لإقامة دولة مستقلة في مصر يحتاج إلى تأمين الشام انطلاقاً من فلسطين. بل إن كل من يقرأ مراسلات إبراهيم باشا إلى أبيه محمد علي سوف يكتشف أن إبراهيم كان يدرك تماماً أهمية تأمين المنطقة الممتدة من جبال طوروس شمالاً حتى غزة كدرع لحماية مصر أو كمتطلب للأمن القومي المصري. وهي حقيقة وعاها تماماً مصطفى النحاس باشا عام 1936 أيام الثورة الفلسطينية الكبرى، عندما طلب منه المندوب السامي البريطاني اللورد كيلرن إصدار بيان يدعو الفلسطينيين إلى التعايش مع اليهود فرد برفضه القبول بوجود كيان في فلسطين يعرض أمن مصر للخطر. وهي حقيقة وعاها جمال عبد الناصر عندما رفض القبول بمشروع تسوية القضية الفلسطينية والاعتراف بالكيان الصهيوني عام 1955 فكان ذلك في مقدمة أسباب عدوان 1956.
ما أحوجنا إلى صحوة الضمائر وإدراك ضرورة التمييز حرصاً على سلامة هذا الوطن الذي لن يغفر التاريخ جرم من فرطوا في أمنه القومي على نحو غير مسبوق.
د. رؤوف عباس
(2)
أفي كل يوم صار حتماً علينا أن نعيد الحديث ونكرره في المسلّمات وفيما ينبغي أن تكون عليه السياسات الوطنية لمصر، حماية لأمنها وأمن المصريين الجماعي؟
أفي كل يوم صار حتماً علينا أن نزيد ونعيد ونقول، بأن فلسطين ليست شأناً فلسطينياً، وأن القوى العالمية لا تهتم بها لذاتها، ولكن يجري الاهتمام بها لموقعها ولإمكان السيطرة بها على الآخرين من بلاد العرب، وأن "إسرائيل" لم تُزرَع عندما زُرعَت إلا من أجل ضمان بقاء السيطرة الاستعمارية على مصر؟
إن هناك أطناناً من الكتب والمقالات والدراسات تتحدث عن التاريخ والجغرافيا ومسائل الأمن القومي لمصر وبلاد العرب ودور "إسرائيل" المدمر للمستقبل العربي كله وأمن شعبه وأقطاره ودوله. يكفي أن هذه المنطقة منذ انزرعت "إسرائيل" في قلبها لم تعرف استقراراً سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً.
يذكر أمين هويدي وزير الدفاع الذي أعاد بناء الجيش المصري بعد حرب 1967 ورئيس المخابرات العامة، يذكر أن حرب 1967 مثلاً بدأت من سنة 1952 "أما نهايتها فلم تتحدد بعد ولا يعرف أحد متى ولا كيف تكون" (حرب 1967 الطبعة الأولى 2006 ص 17). ويلاحظ اللواء المرحوم حسن البدري المؤرخ العسكري الشهير تكرار الجولات الحربية مع "إسرائيل" بفواصل زمنية قصيرة نسبياً (الحرب في أرض السلام 1967 ص 14). وهي صارت الآن ثماني حروب وانتفاضات مسلحة خلال ستين سنة، بمتوسط أقل من ثماني سنوات فارقا زمنياً بين كل واحدة والأخرى. ولا تزال كتابات اللواء الدكتور فوزي محمد طايل أستاذ الاستراتيجية الشاملة، وكتابات اللواء المرحوم صلاح سليم وأحاديثه ودراساته حية في أذهاننا، نعرف منها من هو العدو من الصديق.
هل نشأ بيننا اليوم من لا يعرف من هو العدو ومن هو الصديق، فينظر إلى الشعب الفلسطيني باعتباره شعبا يغزو مصر وأرض سيناء، ولا يدرك الخطر على بلده وشعبه من قوة العسكرية "الإسرائيلية" الصهيونية ذات السلاح النووي والأطماع التوسعية؟ ألم يعرف هذا الناشئ فينا من قتل جنودنا وأهالينا واحتل أرضنا وبنى عليها المستوطنات حتى حررتها قواتنا المسلحة؟
أقصد "بالناشئ بيننا" أصحاب هذه الأقوال المستنبتة التي لم نعرفها قط من قبل، فلم نعرف من قبل مصريين يقولون إن خطراً يهدد بلدهم يأتيهم من الشعب الفلسطيني والعربي، ولا يأتيهم من "إسرائيل" وقواتها المسلحة. وقد قامت الحركات الوطنية المصرية طوال القرن العشرين على هدف الاستقلال الوطني، وهي بهذا تستهدف إجلاء المحتل الأجنبي إن وُجد محتل، وتستهدف علاقات وثيقة مع السودان المستقل إن تهدده خطر من خارجه، وتستهدف أيضاً الوقوف مع الشعب الفلسطيني ضد الغزاة لأرضه، لأن في هذا الوقوف مكافحة للخطر الذي يتهدد مصر بمثل ما يتهدد الفلسطينيين.
أنا لا أعرف من أي مورد فكري أو سياسي جاء هؤلاء "الناشئون بيننا". إذ في بضع سنوات وجدناهم متصدرين ومتربعين، ويقولون بالتحالف الاستراتيجي مع العدو الاستراتيجي المتمثل في "إسرائيل" والولايات المتحدة، ويتكلمون عن الأمن القومي بحسبانه أمن أفراد ومصالح فردية وليس أمن شعب وجماعة سياسية. ووطن فداه أبناؤه دائماً بأرواحهم.
إن العسكريين الوطنيين المصريين، هم من علمونا أن لا أمان لمصر كأرض وشعب، متى وجدت دولة معادية لها في فلسطين أو في السودان، وهم يقصدون بالدولة المعادية أن تكون هذه الدولة ذات قوة قادرة على الفعل العسكري من دون أن تملك أنت أن تقاومه أو ترده، وأن تكون هذه الدولة ذات سياسات متناقضة للسياسات التي تتبعها دولتك تحقيقاً لما تراه صالحاً لها. وهذا بالضبط هو موقف "إسرائيل" بالنسبة لمصر.
وغزة بالذات كانت خاضعة للإدارة المصرية من سنة 1948 حتى 1967، واحتلتها "إسرائيل" من أيدينا في حرب تلك السنة، وساومنا نحن "إسرائيل" على سياساتنا كلها ومستقبلنا كله وتنميتنا المستقلة كلها، وساومناها على نزع السلاح المصري من سيناء المصرية، ساومتنا بذلك كله مقابل أن تجلو عن سيناء وتبرم معنا اتفاقية سلام، رغم أننا كنا منتصرين في حرب 1973. وتركنا لهم غزة التي كانت عهدة في رقبتنا السياسية. واليوم تعلو أصوات بأن أهالي غزة الفلسطينيين خطر على الأمن القومي المصري، أهالي غزة وليس جيش "إسرائيل" هم الخطر على مصر.
إن جاز أن يرفع أمر من أمور هذه الدنيا إلى مرتبة القداسة، فهو مسألة الأمن القومي، لأن فيه أمان الجماعة ومصيرها على المدى الطويل. ولذلك فهو لا يقبل تلاعباً ولا خفة في المعالجة، ولأنه هو مما نموت دفاعاً عنه ونكون شهداء. وما من أمة تختلف بعضها مع بعض في مسائل أمنها القومي أو تتخذ مسائِلُهُ مجرد أدوات لصراعات سياسية يومية بين اتجاهات حكومية ومعارضة. إننا إن التبس علينا أمر كهذا مع وضوحه وحسمه وتبلوره بخبرة التاريخ ومحن السياسة ودماء الشهداء، نكون إذا من الهالكين، وقانا الله شر المصير- والحمد لله.
طارق البشري
(3)
هل يحق لنا أن نمن على الفلسطينيين بأننا بذلنا الدم والمال والجهد، وضحينا من أجلهم وليس من أجل مصر وأمنها؟
لقد أصابتني الدهشة والتعجب عندما وجدت السؤال مطروحاً في الساحة المصرية، لأنني انظر إلى القضية باعتبارها قضيتي الخاصة، وقضية مستقبل مصر وأمنها. لقد جاء لص خبيث ودنيء، ووضع قنبلة أمام باب منزلي عام 1917م (الذي صدر فيه وعد بلفور) مستغلاً ظروف ذلك العام الوطنية والقومية والدولية. وهي ليست قنبلة موقوتة كما قد يظن البعض، بل هي قنبلة شيطانية تنمو وتنفجر من حين إلى آخر. وفي تفجرها المستمر تنمو وتترعرع وهي محاطة بلصوص دوليين يباركون ترعرعها وتفجره. ولم نسمعها حينذاك رغم أنها كانت أمام باب منزلنا، بل تجاهلنا انفجاراتها المستمرة. ولم تكتف بذلك بل أعلنت عن وجودها للعالم عام 1948م حيث أسرع باقي اللصوص إلى الاعتراف بها. وحينذاك اكتوى المستمعون فقط بنارها، ونالتهم فرقعتها وشظاياها.
واستمر ذلك شأنها، ولا نشعر بأنها تنمو إلا كلما ازدادت فرقعتها، حتى دخلت صحننا (سيناء) وأغلقت سلم منزلنا (قناة السويس) مدة تزيد على العقد. ولم تكن لنا حركة إلا من فوق أسطح الجيران غرباً وجنوباً. ونتيجة هذا الاختناق تحركت لأخرج هذه الشعلة من سلم المنزل وصحنه، وكان لهذا الخروج ثمنه الغالي، إذ دعت باقي اللصوص لوضع أقدامهم في الصحن لحمايتها، وظلت تفرقع وتشتعل أمام باب منزلي لتشغلني وتشغل باقي الجيران، بينما هي تتوهج وتزداد فرقعة. فملكت ما لم نملك وحازت سلاحاً تخلينا عنه منذ مدة ثم بدأنا نفكر فيه الآن. لقد أصبحنا ألعوبة في بيتنا، نهتز ونجري إلى الشبابيك عند كل انفجار يدوي أمام باب المنزل. أو ما قد يصل أحياناً إلى صحن المنزل، فقد نغضب ونشجب حينئذ ثم نعود إلى أرائكنا للتحدث ثم للنوم.
أيها السادة، هل يحق لنا أن نَمنّ، أم أننا أصبحنا في بيتنا مذعورين خائفين نبحث عن جيران آخرين نقذفهم بالتهم والأخطاء لنخفي أن بيتنا قد انتهك أكثر من مرة، وأننا ضعاف خائفون، لا نستطيع أن نحاصر هذه القنبلة فنتركها تحرق نفسها بنفسها، وذلك أضعف الإيمان، ولا نستطيع أن نرمم بيتنا حتى لا تصيبه تلك القنبلة بشظاياها بعد ذلك، حتى نرتفع بأخلاقنا عن المنَّ..